لغَزّة العِزّة: أقدم إعتراف و من ثم تعهد

كيف يمكنني كتابة مقدمة تلخص آخر ٥٠ يومًا؟

أستطيع أن أحاول وصف هذه الحالة، ولكن لا أعتقد أنني أستطيع أن أعطيها حقها.

يمكنني استخدام كلمات مثل الرعب، لكنها لن تصف الرعب الذي يعيشه أهل غزة، ولا تعبر عن رعبنا ونحن نشاهد الأحداث مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وينطبق الشيء نفسه على الألم والحزن  والأسى والغضب والقلق وعدم التصديق وحتى اليأس.

لا يمكن لأي قدر من التعاطف أن يتعاطف.

وربما يحتاج هذا التعاطف أن يُقَدَّم بأفعال لكي تبنيه في تخيل جديد لاستحقاق هذا التعاطف.

وسط كل ذلك، وفي فترات الهروب من وسائل التواصل الاجتماعي والأخبار، جاء حساب لم أتوقع قدومه.

محاكمة للذات، والشتات، والجيل، والوضع الراهن العالمي.

في هذه المقالة، سأشارك أولاً مقتطفات من محاكمتي كنوع من الاعتراف. لا أقصد إصدار أحكام على أحد سوى نفسي. وفي الجزء الثاني، سأشارك تعهدي.

كما هو الحال معي في هذه المدونة، تساعدني الكتابة في تنظيم أفكاري.

الاعترافات

ذاتي

لا أستطيع تحديد اللحظة أو الحدث الذي دفعني إلى عشق الموسيقى والتلفزيون والأفلام الأمريكية/البريطانية عندما كنت مراهقة نشأت بين السعودية وسوريا والأردن. ربما بنات وأبناء خالاتي وأخوالي الأكبر سنا؟

هذا الهوس جعلني مختلفة في المدرسة، كما كان لاسمي وشعري المنكوش تكملة الأثر.

هل هو تمردي المبكر ضد التقاليد العربية التي أرادت أن تقيدني؟

إذ إن جاذبية الغرب أتت بقيم كنت أتوق إليها في تلك السن المبكرة، أهمها الوعد بالحرية. ولكن كما علمت مؤخرًا من بودكاست وائل حلاق. لقد كانت في الغالب حرية أن أفعل وأن أكون، تحت ستار الحرية مما بدا دائمًا مجرد تخلف.

كما أتذكر كثيرًا نتيجة محاولتي القصيرة للهجرة إلى كندا في منتصف الألفية الثانية؛ إيماني بأني سأستطيع تحقيق نصف حياة أينما ذهبت، فالحياة الجيدة من وجهة نظري لا يمكن أن أعيشها كاملة، إلا أن تكون نصفها في الغرب ونصفها الآخر هنا.

على الرغم من هذا الفهم، ظللت كما فعل بعض من صديقاتي وأصدقائي، أحاول استنساخ نسخة مني كمواطنة عالمية، كعربية بدون القيم الرجعية والمنغلقة.

ثم جاءت الصحوة العربية في ٢٠١١، وتجرأنا أن نحلم وقمت حينها أيضاَ بتعهد. يبدو الأمر بعيدًا جدًا كأني سافرت منذ زمن إلى كون مواز. ومع ذلك، أعتقد أن ما جلبته تلك التجربة معها وما بقي معي هو الانتماء إلى شيء جميل، منطقة ذات تاريخ مشترك، وما يجمعنا نحن أهل شرق البحر الأبيض المتوسط هو الأجداد الذين تجولوا في هذه المدن والقرى كما يحلو لهم، سواء كانت عمان أو دمشق أو بغداد أو القاهرة أو بيروت أو القدس أو حلب أو السلط أو نابلس أو الإسكندرية وعشرات البلدات والمناطق بينهما.

ومن هذه التجربة، بدأت لا أهتم بما يعتقده الغربيون بماضيهم الاستعماري الدموي عني وعن شعبي.

لكن مشاهدة وقراءة مواقف المسؤولين الغربيين خلال الأربعين يومًا الماضية لم يكن أقل من مجرد صفعة على وجهي، المعايير المزدوجة والتصريحات اللا إنسانية، والمعاملة التي كان من الصعب جدًا مشاهدتها أو قراءتها. لا لأني اعتقدت للحظة أنهم يهتمون بنا وبأهل غزة وفلسطين، ولكن هجومية التصريحات كانت وقحة جدًا ومؤلمة لدرجة أنه لم يكن من الممكن مشاهدتها على الهواء مباشرة يوم تلو الآخر.

الشتات

قبل السابع من أكتوبر، كان بالنسبة لي كوني فلسطينية هو جزء راسخ من هوية من أنا. لدرجة أنني حتى عندما حاولت الهروب منها، لم أستطع. ما كان بوسعي فعله، وفعلته هو تقديم الأعذار لأبقى راضية عن نفسي، على أقل تقدير.

كما وجدت طريقة لاحتواء الفلسطينية بداخلي لتكون قضيتي وجودية وإمكانية وصول. أنّ إنكار وجود فلسطين قبل عام 1948 كان بمثابة حرماني من تاريخ أجدادي، ووالدي وأعمامي وعماتي وخالاتي وخوالي، والمصاعب التي تحملوها عندما اضطروا إلى الفرار في أوائل عام 1948.

حتى إنني وصفت القضية بأنها جزء من إجلال وتقدير لا أستطيع الهروب منه.

في الأسابيع الماضية، تذكرت محادثة في لقاء مع ابنة عمي، وخاصة ما قلته لها قبل عام.

كنت أذكر كونها نشطة جدًا على وسائل التواصل الاجتماعي خلال حملة الشيخ جراح قبل عامين. وبينما كنا نتحدث، ذكرت أنها لا تزال نشطة، وتبذل جهدًا في القضية الفلسطينية. بطبيعة الحال، هنأتها في البداية، ثم جاء القلق الذي تُرجِم إلى "هل أنت متأكدة من أن هذا هو النضال الذي تريدين بذل كل جهودك من أجله؟ كون القضية بلا نهاية مع القليل من الأمل؟"

كما هو الحال مع كل شيء آخر في حياتي، جزأت فلسطين والقضية والشعب إلى زاوية يمكنني الاهتمام بها كلما كان هناك حدث، أو مذبحة، أو انعطاف سياسي، أو حالة من الفوضى. أو حدث ثقافي أو فيلم للمشاهدة...

الجيل

منذ بضع سنوات، عندما بدأت أفهم ما يعنيه كوني في منتصف أربعينيات عمري، بدأت أشعر بنوع من الذنب الذي لم يكن شخصيًا بل عن جيلي.

أعني أننا عمومًا أمضينا جزءًا كبيرًا من العشرينيات والثلاثينيات من عمرنا في انتقاد جيل آبائنا ونكستهم بالنكسة، بعد أن سمعنا بالطبع من أجدادنا عن نكبتهم بالنكبة، والأحداث ما بينهما. فمن ناحية، كان لديهم أحلامهم وانتماءاتهم السياسية، وبعض الانتصارات الصغيرة هنا وهناك. ولكن الآن وأنا أقترب من الخمسينات، أسأل نفسي ماذا فعلنا من أجل فلسطين؟ ماذا فعلنا من أجل الأردن؟ من أجل لبنان وسوريا؟ هل قمنا على الأقل بحل قضايا حقوق المرأة؟ هل ساهمنا اقتصاديا في التخفيف من حدة الفقر؟ هل قمنا بتغييرات طويلة الأمد في أي من مجتمعاتنا؟ شيء يمكن أن نفخر به كجيل؟

الجنوب العالمي

لا أستطيع أن أصف كيف جعلتني صور المظاهرات في جميع أنحاء العالم أشعر بأننا لسنا وحيدين بحزننا وألمنا وغضبنا. كانت مقاطع الفيديو الداعمة من أشخاص مختلفين مؤثرة، وأعطتنا تأكيداً -للأسف- كانت هناك حاجة إليه.

وعلى الرغم من أهمية التضامن من جانب المجتمعات الغربية، فإنه أظهر مدى بعد الدول القومية في الغرب عن جزء كبير من مجتمعاتها. ومع مرور الأيام، حرصت المزيد والمزيد من المجتمعات من كل مكان على تسمية الإبادة الجماعية والفظائع باسمها.

  • الشعب اليهودي المعادي للصهيونية الذي صرخ "ليس باسمنا" و"لن يحدث ذلك مجددا الآن"
  • السكان الأصليون لما يعرف الآن بالولايات المتحدة وكندا وأستراليا الذين هتفوا وارتدوا ملابس، وغنوا ورقصوا تضامنًا في الشوارع.
  • الجاليات السوداء في الولايات المتحدة تهتف "حياة الفلسطينيين مهمة" و"حياة الناس كلها مهمة".

كَمْ التعلم الذي قام به الكثيرون مذهلاً وبالفعل استثنائي. وخاصة الشتات. سواء كان ذلك التاريخ الفلسطيني، أو تاريخ السكان الأصليين، أو الرأسمالية العالمية، أو المقاطعة، أو بلاك ووتر، وما إلى ذلك.

نشعر كل يوم بكل هذا الحب الجماعي من غرباء جمعتنا بهم إنسانية فلسطين واختفاء أدنى مستويات العدالة منها، ومن أهلها الصامدين.

لتعاطفهم معنا استحقاق، ولعله درس لنا جميعاً بأن همومنا وقضيتنا ليست الضحية الوحيدة لنظام عالمي مبني عل التنافس على الهيمنة فوق أي اعتبار آخر.

التعهد

‎سواء كانت الهدنة قائمة على نحو دائم أم لا؛ إن كيان الاحتلال الوحشي في فلسطين سيواصل فظائعه كما فعل خلال أكثر من قرن.

‎وفي محاولتي لرسم طريق أوضح لنفسي للمضي قدمًا، قررت مجددا أن ألزم نفسي بتعهد. هذه المرة، سيكون الأمر بدرجات متفاوتة من الصعوبة. ولسبب ما، قررت أن أوثقه من خلال ثلاثة أهرامات.

‎يتمحور كل هرم حول نوع من الدعم الذي اعتقدت أنني بحاجة إلى القيام به لأساهم في تحرير فلسطين وكذلك نفسي من الأنظمة التي تحد من حريتي وتضطهدني.

‎يتضمن الرسم التخطيطي الذي أنشأته الأهرامات الثلاثة. وفي كل منها، يزداد مستوى المشقة كلما وصلت إلى القمة.

‎أشاركها معكم كنوع من الالتزام من نفسي للقضية.

هذا مجهود شخصي فما هو صعب بالنسبة لي قد يكون أسهل بالنسبة لك والعكس صحيح.

‎فهي رحلة شخصية للغاية، ولا يمكننا أن نخجّل بعضنا البعض فيها ولا أن يقال لنا ما يجب القيام به، ومتى يمكن القيام بذلك.

وكما أدرك الكثيرون الآن وقالوا: إن مقاومة غزة للحصول على الحرية، جعلتنا أن نرغب في أن نكون أحرارًا أيضًا. وكما هو الحال في غزة، فإن الحرية لها ثمن، ولم ولن تُمنح مجانا.

‎دعونا نتعلم مع ومن بعضنا البعض. ولكل منّا أن يرسم طريقه إلى الحرية.

‎ أتمنى لك طريقاً مقصوداً لحياة حرة ومُرضِية.

Photo by Mohammed Ibrahim on Unsplash

Razan Khatib

Razan Khatib

Playing at the intersection of culture, technology, and values. Trying to structure my thoughts and share experiences, learnings, and insights. Co-founder of @spring_apps
Amman, Jordan